منذ يومين ساقننى قدمى الى منزل احدى عماتى ... سيدة فى خريف العمر .
اشعر بالراحة التامة عندما أتحدث معها ... اخبرها بكل مايجول بخاطرى .. ورغم علمى التام انها لا تدرك مااتحدث به اليها
فهى سيدة عجوز .. مثل كل امهاتنا القدامى فى بلدتى .. الذين لم ينالوا حقهم فى التعليم .. لا تجد الفطره اى مكان تحتمى فيه من غوغاء القشور الحضاريه الزائفه الا بداخلهم ... لاتصدر منهم اصوات الا الدعاء لك او ابتسامه خضراء تبث بداخلك الحياه وتقتل بداخلك الاستياء
.. الا ان زيارتى لها تلك المره كان لها داعى . فقد توفى زوجها فى اثناء غيابى عن بلدتى .. ولم اتمكن من الحضور لاكون بجوارها .
فذهبت اليها عند وصولى لاطمئن عليها وعلى احوالها ..
فتحت لى باب المنزل واخذتنى بالاحضانها التى بمجرد ان تلامس جسدك , تجدك انسان على حقيقتك , بكل ضعفك وحيرتك .. يتحطم تماسكك فى الحياه وتعود كما كنت .. انسان ضعيفا لايملك الا البكاء بين تلك الأحضان ....
وجدتها تجلس لوحدها فى المنزل بعد فراق زوجها وانشغال ابنائها عنهم فى الحياه .. جلست بجوارها اسألها عن احوالها .
لم تنطق سوى بالحمد لله . تغيب بخاطرها عنى لدقائق تتامل جدران المنزل ...
صوت زوجها الذى كان يجالسها المكان .. تبتسم لحظات .. ثم تعود لحزنها .. تراه وكانه يحيط بالمكان .. وصوته يدق جدران المنزل
تفيق من غيابها عندما تستشعر بوجودى بجانبها اتاملها .. لتسالنى عن احوالى , ثم تعود الى مرافقة ذكرياتها ..
لم ارى كيف يرسم الحزن قسمات على الوجه تغير ملامح الانسان الى النقيض الا معها ..
حاولت ان اخرجها من حالتها .. فقلت لها ( وحشنى الشاى الجميل بتاعك ) ..
فتبسمت لى بمجامله وكانها مشقه عليها ان تبتسم وقالت ( عنيا ليك ياحبيبى .. ثوانى واعملك الشاى )
قامت لكى تعد لى الشاى وجلست انا وحدى .. يعتصرنى الحزن من اجلها , افكر بحالها وكيف تمر بها الأيام .. اشعر بمصارعتها لعقارب الساعه .. التى عندما تدق كانها تعلن عن نهايه ساعه من الحزن , وابتداء ساعه اخرى للحزن ..
غابت عنى لمدة الساعة ,فشعرت بالقلق عليها . حتى قمت لاطمئن عليها .. فوجدتها تجلس على احدى الكراسى الموضوعة فى المطبخ
تكلم نفسها وكانها تتحدث الى زوجها الراحل , تتمتم بعض الكلمات التى لا افهمها ثم تعود لتقول ( حاضر ياحاج .. هااقوم احضر لك العشا .. انت شكلك جاى من الغيط تعبان ) ثم تعود لتقول ( مش الواد ابراهيم اتعارك مع مراته امبارح وجت تشكى لى منه .. انت فين ياحاج ) ... ثم التفت الى براد الشاى الموضوع على الموقد لاجدها انها نسيت ان تشعل عليه النار .. لم اجد ماافعله لها وانا فى حاله يرثى لها من اجلها .. فاأنا اعلم ان مذاق الفراق لايمكن تحليته .. انسحبت خارجا من المنزل ولم استطع ان اودعها حتى لا اقاطعها مع ذكرياتها
اغلقت الباب من خلفى واستدرت اليه وعينى قد لاحقتها الدموع مودعا المنزل .. ذلك المنزل التى تسكنه امراة وحيدة مع الذكريات .....